رسالة ماستر: النظام القانوني لاستحالة التنفيذ في التشريع المغربي
من أنجاز الطالب:
رشيد السروت
تحت إشراف الأستاذ:
الدكتور عدنان عبد العلي
مقدمة:
تسعى التشريعات جاهدة لضمان استقرار المجتمع، ومن أجل ذلك تحمي أهم عنصرين تستند عليهما المعاملات التعاقدية وهما عنصرا الثقة والائتمان، فيمنع المشرع الأفراد من الإخلال بالتزاماتهم التعاقدية انطلاقا من أن الفرد عندما يتعهد بالتزام ما فذلك يكون بغرض تنفيذه وليس الإخلال به، فالفرد عندما قبل بالالتزام كان حرا وتعهده صدر بناء عن إرادته، فإخلاله بالتزامه يؤدي إلى قيام مسؤوليته العقدية.
إلا ا أن طبيعة الأشياء قد تفرض على المتعاقد ألا ينفذ التزامه، ولهذا قدم المشرع احتياطات منها ما هو مرتبط
بالشيء محل الالتزام ومنها ما هو مرتبط بالالتزام بذاته. فلا يمكن إلزام المتعاقد على تنفيذ التزام محله شيء غير موجود، إذ عندها يكون الالتزام أصلا باطلا، ومن هنا يكون المتعاقد ملزما بتنفيذ الالتزام الممكن وجوده.
فمتى وجد الالتزام الممكن نشأ صحيحا، ويكون على المتعاقد أن ينفذه وألا يخل به، وإن أخل به فإنه يتم
التنفيذ عليه عينيا أو بمقابل. ونقصد بذلك أن محل الالتزام هو عينه المتفق على تنفيذه، فيلتزم المدين بتنفيذ الالتزام الذي اتفق عليه في العقد بذاته أو بعينه، فإن لم يمكن تنفيذ هذا الالتزام العقدي المتفق عليه وجب تعويضه بمقابل وهو ما يسمى بالتنفيذ بمقابل.
فالمدين يبقى ملزما بالتنفيذ حتى ولو لم يمكن تنفيذ ذات الالتزام المتفق عليه، إذ يمكنه تعويض هذا الالتزام
بمقابل، فهذا هو الأصل من غاية نشأة الالتزام العقدي و هو أن يتم تنفيذه وفاء لما تعهد به المدين تجاه الدائن.
إلا أن المشرع احتاط مرة أخرى؛ فبعد نشوء الالتزام صحيحا لم تعد عملية تنفيذه تخضع للعشوائية، بل أدرك أن
هناك ظروفا قد تعيق عملية التنفيذ، لهذا و تحقيقا للعدالة التعاقدية، فإنه وبعد حماية الثقة و الائتمان، جاء لحماية
المتعاقد المدين مما قد يكون تعسفا في حقه إذا ما أجبر على تنفيذ التزام استحال عليه بسبب أجنبي عنه، و ليس
هناك ما يعفيه من المسؤولية عن عدم تنفيذ ما التزم به إلا أن يحول دون ذلك التنفيذ ظروف أو أحداث تفوق
طاقة المدين و قدراته على تخطي تلك الظروف و الأحداث، و من هنا تبرز استحالة التنفيذ كسبب من أسباب
انقضاء الالتزام لأي نزاع متعلق بالمعاملات التعاقدية، فاستحالة التنفيذ تمثل الحل النهائي، بحيث أخذت به جل
التشريعات المدنية وأدرجته ضمن أسباب انقضاء الالتزام و كون أنه انقضاء بدون وفاء و بدون مقابل، فلا يكون
إلا باستنفاذ الحلول الممكنة من أجل التنفيذ، فيكون من المنطقي ترتيبه كحل أخير، ذلك أن العقد أصلا يبرم لينفذ
إذ هو النظام الذي تقوم عليه المعاملات الاقتصادية، و الإخلال به يؤدي إلى الإخلال بالنظام الاقتصادي، لهذا
تسعى التشريعات إلى المحافظة على عنصري الثقة و الائتمان بعدة وسائل.
فاستحالة التنفيذ هي وضع استثنائي وضعه المشرع في ضمان استقرار المعاملات العقدية ؛ فهي إذن تمثل
رخصة تعفي المتعاقد المدين من تنفيذ التزامه و ينقضي بها الالتزام. وكغيره من التشريعات المدنية الأجنبية، أخذ المشرع المغربي باستحالة التنفيذ في المواد من 335 إلى 339 من قانون الالتزامات والعقود، وتعتبر استحالة التنفيذ سببا معف من تنفيذ الالتزام وأدرجها ضمن أسباب انقضاء الالتزام معتمدا على منهجية تدرج الحلول من وقائية، علاجية إلى نهائية. ونظرا لخطورة استحالة التنفيذ باعتبارها سببا في انقضاء الالتزام وبالتالي قد تؤدي إلى المساس بالمراكز القانونية والواجبات والحقوق التي أنشأها العقد، فإنه من الواجب الاهتمام باستحالة التنفيذ لتأثيرها على المعاملات التعاقدية وبالتالي على استقرار المجتمع. ولكن رغم هذه الخطورة فإن الفقه لم يتناولها بالتعريف، وإنما فقط تطرق إلى عناصرها التي تدخل في مفهومها بصفة عامة. و بهذا يكون الفقه قد انتهج فيما يخص الاستحالة منهجا مخالفا لما هو متعارف عليه في منطق و منهج التعريف بالمفاهيم القانونية، باعتبار أن استحالة التنفيذ هي وضع استثنائي، فهي مقيدة بشروط، فإذا استحال على المدين أن ينفذ الالتزام عينا حكم عليه بتعويض الضرر الناجم عن عدم تنفيذ التزامه ، ما لم يثبت أن استحالة التنفيذ نشأت عن سبب لا يد له فيه، و يكون الحكم كذلك إذا تأخر المدين في تنفيذ التزامه، ، فيجب أولا التحقق من إمكانية التنفيذ العيني، فإن لم يكن التنفيذ العيني ممكنا فالتنفيذ يكون بمقابل، و إن امتنع المدين فينفذ عليه . وفي آخر هذه الحلول نص على استحالة التنفيذ والتي يجب على المدين أن يثبت شروطها بحيث يجب أن تكون مطلقة، ولن تكون كذلك إلا إذا صدرت عن سبب أجنبي عن المدين.
و استحالة التنفيذ لا تمثل قاعدة عامة وإنما استثناء منح به المشرع رخصة للمدين في أن يستعمل حقه في تبرئة
ذمته من الالتزام متى وجد سبب أجنبي جعل تنفيذ هذا الالتزام مستحيلا .وبتحقق هذه الاستحالة بسبب توفر شروطها فإنه حتما سيكون لها أثر مختلف عن آثار المفاهيم القانونية أو الطرق التي تكلمنا عنها سابقا، إذ أثرها يتسع ليشمل الذمة المالية للمدين وللدائن، ليس فقط فيما رتبه العقد من التزامات وحقوق، بل أيضا تؤثر على المراكز القانونية، فيستوجب عندها تحديد من سيتحمل تبعة هذه الاستحالة أو الخسارة الناتجة عنها وذلك على أساس المراكز التي كان العقد المنفسخ قد أنشأها عند إبرامه .فأثر استحالة التنفيذ لا يعني فقط مجرد براءة ذمة المدين بسبب انقضاء الالتزام وبالتالي الانفساخ، بل أكثر من ذلك تنتج هنا خسارة يستوجب تحديد من سيتحملها. ومن هنا كان لا بد للمشرع أن يضع حلولا مسبقة حتى لا يتردد المتعاملون في إبرام العقود، مخافة حصول نزاعات وكذلك تجنبا للتخوف الذي بسببه قد يتردد الأشخاص في إبرام العقود، لهذا كانت إرادة الأطراف الحل الأمثل في مسألة تحمل تبعة الخسارة، فأجاز للأطراف وضع شرط يحدد من يتحمل التبعة، لهذا استحالة التنفيذ ليست من النظام العام، فيمكن تحاشي أثرها أيضا بالاتفاق.
أهمية الموضوع:
تتحلى أهمية موضوع ” استحالة تنفيذ الالتزام ” في ضبط المعاملات والالتزامات بين المتعاقدين وحل النزاعات التي قد تنشأ بينهم لعدم تنفيذ أحد المتعاقدين لالتزاماته بسبب استحالة التنفيذ.
دوافع اختيار الموضوع:
تتمثل دوافع اختيارنا لهذا الموضوع باعتبارنا طلبة في ماستر المنازعات القانونية والقضائية تخصص ” مدني معمق ” في:
- اندراج الموضوع ضمن تخصص القانون المدني باعتبار هذا الأخير هو الشريعة العامة لجميع فروع
القانون الخاص، والمرجع الأساسي لمختلف القوانين اللاحقة.
- محاولة منا اختتام مسارنا الدراسي الجامعي ببحث متميز يعكس جل المكتسبات المعرفية والمنهجية التي
تلقيناها في سلك دراسات الماستر ولا سيما في تخصص المدني المعمق.
- رغبتنا في إغناء المكتبة القانونية بمثل هذه الدراسات المتميزة التي تناقش مجموعة من الإشكالات
المطروحة في مجال تنفيذ الالتزامات التعاقدية، وقلة الدراسات الأكاديمية التي تناولت مثل هذه المواضيع
القانونية.
- وجود علاقة وطيدة بين هذا الموضوع وماستر ” المنازعات القانونية والقضائية ” بحيث أن معظم النزاعات
التي تنشأ بين المتعاقدين يكون سببها عدم تنفيذ الالتزام بسبب الاستحالة أو لأسباب أخرى من طرف
المدين، وبذلك يتم اللجوء إلى القضاء لحل النزاع. - الأهمية البالغة لموضوع الالتزام في حياة الناس ومعاملاتهم.
إشكالية الموضوع
وبناء عما تم الإشارة إليه سابقا سنقوم بطرح الإشكالية الرئيسية التي سنحاول الإجابة عليها وتتمثل في ما يلي:
إلى أي حد وفق المشرع المغربي في تحقيق التوازن العقدي من خلال المقتضيات القانونية المؤطرة لموضوع استحالة التنفيذ؟
وتتفرع عن هذه الإشكالية مجموعة من التساؤلات الفرعية التي يمكن ايجازها على الشكل التالي:
إذا كان الأصل في الالتزام انقضاءه بالوفاء فإلى أي مدى يمكنه أن ينقضي بدون الوفاء به من الناحية القانونية؟
ما هو المفهوم القانوني لاستحالة التنفيذ؟
ما هي الآثار القانونية المترتبة عن استحالة التنفيذ؟ من يتحمل تبعة الاستحالة بعد انقضاء الالتزام؟
المنهج المعتمد في الموضوع:
وللإجابة على الإشكالية المطروحة اعتمدنا في ذلك على منهجين بهدف تقريب الفهم الصحيح للالتزامات والنصوص القانونية المنظمة لها، فقد اعتمدنا على المنهج الوصفي، باعتباره من أكثر المناهج العلمية قدرة على دراسة المشكلات والمواضيع القانونية، وإيجاد التفسيرات والحلول المناسبة لها. كما قمنا بالاعتماد على المنهج المقارن من خلال المقارنة بين ظهير الالتزامات والعقود وبعض القوانين المقارنة العربية والأروبية.
فرضية الموضوع:
الملاحظ أن استحالة التنفيذ في التشريع المغربي من خلال التنظيم الذي سنه المشرع طرح العديد من
الإشكالات على مستوى العمل القضائي، مما كشف عن بعض العيوب التي تعتري وتشوب هذا النظام القانوني.
وللإلمام بجميع جوانب الموضوع سنقسم هذا البحث من خلال التصميم التالي:
الفصل الاول: الطبيعة القانونية لاستحالة التنفيذ
المبحث الأول: ماهية استحالة التنفيذ
المبحث الثاني: تطبيقات نظرية لاستحالة التنفيذ
الفصل الثاني: الآثار القانونية المترتبة عن استحالة التنفيذ
المبحث الأول: انقضاء الالتزام وتوابعه
المبحث الثاني: تحمل تبعة الاستحالة
للاطلاع أو تحميل الرسالة: إضغط هنا